الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على هذه الملة -فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله [تعالى] إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السري بن يحيى: أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد عليه، ثم قال: "ما بال أقوام يتناولون الذرية؟" قال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: "إن خياركم أبناء المشركين! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها". قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ]} الآية وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري به. وأخرجه النسائي في سننه من حديث هُشَيْم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: حدثنا الأسود ابن سَرِيع، فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك. وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلْب آدم، عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين و[إلى] أصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم. قال الإمام أحمد: حدثنا حَجَّاج، حدثنا شُعْبة، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟" قال: "فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي". أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة، به. حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير -يعني ابن حازم -عن كلثوم بن جابر عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم، عليه السلام، بنعمان. يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} إلى قوله: {الْمُبْطِلُونَ} وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه، عن محمد بن عبد الرحيم -صاعقة -عن حسين بن محمد المروزي، به. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به. إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا. وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جَبْر، به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث، عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فوقفه وكذا رواه إسماعيل بن علية ووَكِيع، عن ربيعة بن كلثوم، عن جبير، عن أبيه، به. وكذا رواه عطاء بن السائب، وحبيب بن أبي ثابت، وعلي بن بَذِيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله، وكذا رواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة عن ابنعباس فهذا أكثر وأثبت، والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي جَمْرَة الضبعي، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] قال: أخرج الله ذرية آدم [عليه السلام] من ظهره كهيئة الذر، وهو في آذى من الماء. وقال أيضا: حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة، حدثنا أبو مسعود عن جُوبير قال: مات ابن للضحاك بن مُزَاحِم، [وهو] ابن ستة أيام. قال: فقال: يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده، فأبرز وجهه، وحُلّ عنه عقده، فإن ابني مُجْلَس، ومسئول. ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت: يرحمك الله، عمّ يُسأل ابنك؟ من يسأله إياه؟ قال: يُسْأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم. قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم؟ قال: حدثني ابن عباس [رضي الله عنه] ؛ أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه. فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به، نفعه الميثاق الأول. ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به، لم ينفعه الميثاق الأول. ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول على الفطرة فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وَقْف هذا على ابن عباس، والله أعلم. حديث آخر: وقال ابن جرير: حدثنا عبد الرحمن بن الوليد، حدثنا أحمد بن أبي طيبة، عن سفيان بن سعيد، عن الأجلح، عن الضحاك وعن -منصور، عن مجاهد -عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال: "أخذ من ظهره، كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم: {ألست بربكم قالوا بلى} قَالَتِ الْمَلائِكَةُ {شهدنا أن يقولوا} يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أحمد بن أبي طيبة هذا هو: أبو محمد الجرجاني قاضي قومس، كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال ابن عَدِيّ: حدث بأحاديث أكثرها غرائب. وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد،عن عبد الله بن عمرو، قوله، وكذا رواه جرير، عن منصور، به. وهذا أصح والله أعلم. حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا روح -هو ابن عبادة -حدثنا مالك، وحدثنا إسحاق، أخبرنا مالك، عن زيد بن أبي أُنَيْسةَ: أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أخبره، عن مسلم بن يَسار الجُهَني: أن عمر بن الخطاب سُئِل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} الآية، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُئل عنها، فقال: "إن الله خلق آدم، عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون". فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خلق الله العبد للجنة، استعمله بأعمال أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة. وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار". وهكذا رواه أبو داود عن القَعْنَبي -والنسائي عن قتيبة -والترمذي عن إسحاق بن موسى، عن مَعْن. وابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب. وابن جرير من حديث روح ابن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، من رواية أبي مصعب الزبيري، كلهم عن الإمام مالك بن أنس، به. قال الترمذي: وهذا حديث حسن، ومسلم بن يَسَار لم يسمع عُمَر. وكذا قاله أبو حاتم وأبو زُرْعَة. زاد أبو حاتم: وبينهما نُعَيْم بن ربيعة. وهذا الذي قاله أبو حاتم، رواه أبو داود في سننه، عن محمد بن مصفى، عن بَقِيَّةَ، عن عمر ابن جُعْثُم القرشي، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يَسَار الجهني، عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] وقد سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فذكره. وقال الحافظ الدارقطني: وقد تابع عمر بن جُعْثُم بن زيد بن سِنان أبو فَرْوَة الرَّهَاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك، والله أعلم قلت: الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر "نعيم بن ربيعة" عمدًا؛ لما جهل حاله ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم؛ ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات، ويقطع كثيرًا من الموصولات، والله أعلم. حديث آخر: قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله [عز وجل] آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نَسَمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذرّيتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وَبِيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذُرّيتك، يقال له: داود. قال: رب، وكم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم، جاءه ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أوَ لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته". ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، به. وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أنه حدثه عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو ما تقدم، إلى أن قال: "ثم عرضهم على آدم فقال: يا آدم، هؤلاء ذريتك. وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى، وأنواع الأسقام، فقال آدم: يا رب، لم فعلت هذا بذريتي؟ قال: كي تشكر نعمتي. وقال آدم: يا رب، من هؤلاء الذين أراهم أظْهَرَ الناس نورا؟ قال: هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك". ثم ذكر قصة داود، كنحو ما تقدم حديث آخر: قال عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري عن أبيه، عن هشام بن حكيم، رضي الله عنه، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتبدأ الأعمال، أم قد قُضِي القضاء؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه" ثم قال: "هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة مُيَسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار مُيَسَّرون لعمل أهل النار". رواه ابن جرير، وابن مردويه من طرق عنه. حديث آخر: روى جعفر بن الزبير -وهو ضعيف -عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق، وقضى القضية، أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله، فقال: يا أصحاب اليمين. فقالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال. قالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى ثم خلط بينهم، فقال قائل: يا رب، لم خلطت بينهم؟ قال: لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم [عليه السلام] . رواه ابن مردويه أثر آخر: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب [رضي الله عنه] في قول الله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية والتي بعدها، قال: فجمعهم له يومئذ جميعا، ما هو كائن منه إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، الآية. قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع، والأرَضِين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئًا، وإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا له يومئذ بالطاعة، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك. فقال: يا رب، لو سَويت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرُج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] [الأحزاب:7] وهو الذي يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ [الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ]} الآية [الروم:30]، ومن ذلك قال: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى} [النجم:56] ومن ذلك قال: {وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ] [الأعراف:102]. رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مَرْدُويه في تفاسيرهم، من رواية ابن جعفر الرازي، به. وروي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد من علماء السلف، سياقات توافق هذه الأحاديث، اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها، وبالله المستعان. فهذه الأحاديث دالة على أن الله، عز وجل، استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] وفي حديث عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان، كما تقدم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمَار المُجَاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سَرِيع. وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك، قالوا: ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ولم يقل: "من آدم"، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: "من ظهره" {ذُرِّيَّاتِهِمْ} أي: جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ} [الأنعام:165] وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} [النمل:62] وقال: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133] ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أي: أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا. والشهادة تارة تكون بالقول، كما قال [تعالى] {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام:130] الآية، وتارة تكون حالا كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17] أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7] كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كما في قوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم:34] قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال لكان كل أحد يذكره، ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد؛ ولهذا قال: {أَنْ يَقُولُوا} أي: لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} أي: [عن] التوحيد {غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} الآية.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} قال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأعمش ومنصور، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [فَأَتْبَعَهُ]} الآية، قال: هو رجل من بني إسرائيل، يقال له: بَلْعم بن أبَرَ. وكذا رواه شعبة وغير واحد، عن منصور، به. وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] هو صيفي بن الراهب. قال قتادة: وقال كعب: كان رجلا من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين. وقال العَوْفي، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] هو رجل من أهل اليمن، يقال له: بَلْعَم، آتاه الله آياته فتركها. وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى، عليه السلام. وقال سفيان بن عيينة، عن حُصَين، عن عمران بن الحارث، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] هو بلعم بن باعر. وكذا قال مجاهد وعكرمة. وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] قال: هو بلعام -وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت. وقال شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ [آيَاتِنَا]} قال: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت. وقد روي من غير وجه، عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة، قبحه الله [تعالى] وقد جاء في بعض الأحاديث: "أنه ممن آمن لسانه، ولم يؤمن قلبه"؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} قال: هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها واحدة. قال: فلك واحدة، فما الذي تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فدعا الله، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئًا آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة، فصارت كلبة، فذهبت دعوتان. فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث، وسميت البسوس. غريب. وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو رجل من مدينة الجبارين، يقال له: "بلعام" وكان يعلم اسم الله الأكبر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره من علماء السلف: كان [رجلا] مجاب الدعوة، ولا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه. وأغرب، بل أبعد، بل أخطأ من قال: كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها. حكاه ابن جرير، عن بعضهم، ولا يصح. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لما نزل موسى بهم -يعني بالجبارين -ومن معه، أتاه يعني بلعام -أتاه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه. قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ [مِنَ الْغَاوِينَ]} وقال السدي: إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26] بعث يوشع بن نون نبيا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله [قد] أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: "بلعم" وكان عالمًا، يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر -لعنه الله -وأتى الجبارين وقال لهم: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء، يعظمهن فكان ينكح أتانا له، وهو الذي قال الله تعالى {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} وقوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: استحوذ عليه وغلبه على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ ولهذا قال: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي: من الهالكين الحائرين البائرين. وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا محمد بن بكر، عن الصلت بن بَهْرام، حدثنا الحسن، حدثنا جُنْدُب البجلي في هذا المسجد؛ أن حذيفة -يعني بن اليمان، رضي الله عنه -حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك". قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟ قال: "بل الرامي". هذا إسناد جيد والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وغيرهما. وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ} أي: مال إلى زينة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى. وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ} قال: تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس، فسجدت الحمارة لله، وسجد بلعام للشيطان. وكذا قال عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير، وغير واحد. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: وكان من قصة هذا الرجل: ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه: أنه سُئل عن هذه الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [فَانْسَلَخَ مِنْهَا]} فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، قال: وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام -أو قال: الشام -قال فرُعب الناس منه رعبًا شديدًا، قال: فأتوا بلعام، فقالوا: ادع الله على هذا الرجل وجيشه! قال: حتى أوَامر ربي -أو: حتى أؤامر -قال: فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له: لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم. قال: فقال لقومه: إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم، وإني قد نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا: ادع عليهم. فقال: حتى أوامر. فوامر، فلم يَحُر إليه شيء. فقال: قد وامرت فلم يَحُر إلى شيء! فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى. قال: فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم، جرى على لسانه الدعاء على قومه، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه -أو نحوًا من ذا إن شاء الله. قال ما نراك تدعو إلا علينا. قال: ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم. إن الله يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء يَسْتقبلنهم ؛ فإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال: ففعلوا. قال: فأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال: وكان للملك ابنة، فذكر من عظمها ما الله أعلم به! قال: فقال أبوها -أو بلعام-: لا تمكني نفسك إلا من موسى! قال: ووقعوا في الزنا. قال: وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل، قال: فأرادها على نفسه، فقالت: ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى. قال: فقال: إن منزلتي كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا. قال: فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال: فقال لها: فأمكنيه قال: ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما. قال: وأيده الله بقوة. فانتظمهما جميعا، ورفعهما على رمحه فرآهما الناس -أو كما حدَّث -قال: وسلط الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا. قال أبو المعتمر: فحدثني سَيَّار: أن بلعامًا ركب حمارة له حتى أتى العلولي -أو قال: طريقا من العلولي -جعل يضربها ولا تُقْدم، وقامت عليه فقالت: علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ فإذا الشيطان بين يديه، قال: فنزل وسجد له، قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} قال: فحدثني بهذا سيار، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره. قلت: هو بلعام -ويقال: بلعم -بن باعوراء، ابن أبر. ويقال: ابن باعور بن شهوم بن قوشتم ابن ماب بن لوط بن هاران -ويقال: ابن حران -بن آزر. وكان يسكن قرية من قرى البلقاء. قال ابن عساكر: وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه، له ذكر في القرآن. ثم أورد من قصته نحوا مما ذكرنا هاهنا، وأورده عن وهب وغيره، والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر؛ أنه حدث: أن موسى، عليه السلام، لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم. قال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! قالوا له: ما لنا من منزل! فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه، حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة له متوجهًا إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حُسْبان، فلما سار عليها غير كثير، ربضت به، فنزل عنها فضربها، حتى إذا أذلقها قامت فركبها. فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم: أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها يضربها، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك. فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا! قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه! قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جَمِّلوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كُفِيتموهم، ففعلوا. فلما دخل النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها "كسبي ابنة صور، رأس أمته" برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو "زمرى بن شلوم"، رأس سبط بني سمعان بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، فقام إليها، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى، عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقول هذا حرام عليك؟ قال: أجل، هي حرام عليك، لا تقربها. قال: فوالله لا نطيعك في هذا. ثم دخل بها قبته فوقع عليها. وأرسل الله، عز وجل، الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، صاحب أمر موسى، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لَحْيَيْه -وكان بكر العيزار -وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك. ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا -والمقلل لهم يقول: عشرون ألفا -في ساعة من النهار. فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللَّحَى -لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحييه -والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار. ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ]} - إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} اختلف المفسرون في معناه فأما على سياق ابن إسحاق، عن سالم بن أبي النضر: أن بلعاما اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل: معناه: فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء، كالكلب في لهثه في حالتيه، إن حملت عليه وإن تركته، هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه؛ كما قال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] ونحو ذلك. وقيل: معناه: أن قلب الكافر والمنافق والضال، ضعيف فارغ من الهدى، فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره. وقوله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ} أي: لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه -في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب -في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران، [عليه السلام]؛ ولهذا قال: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيحذروا أن يكونوا مثله؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا، وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة. وقوله: {سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، أي: ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حَيِّز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" وقوله: {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} أي: ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم، بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} يقول تعالى: من هداه الله فإنه لا مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة، فإنه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا جاء في حديث ابن مسعود: "إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وغيرهم.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} يقول تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أي: خلقنا وجعلنا {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} أي: هيأناهم لها، وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلائق، علم ما هم عاملون قبل كونهم، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ورد في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" وفي صحيح مسلم أيضا، من حديث عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم" وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود [رضي الله عنه] ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد". وتقدم أن الله [تعالى] لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، قال: "هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي". والأحاديث في هذا كثيرة، ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها. وقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} يعني: ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله [سببا للهداية] كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] [الأحقاف:26] وقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] هذا في حق المنافقين، وقال في حق الكافرين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] ولم يكونوا صمًا بكمًا عميًا إلا عن الهدى، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]، وقال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وقال {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36، 37]. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ} أي: هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] [البقرة:171] أي: ومثلهم -في حال دعائهم إلى الإيمان -كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول؛ ولهذا قال في هؤلاء: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} أي: من الدواب؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها، وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء؛ ولأن الدواب تفقه ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده، فكفر بالله وأشرك به؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده، ومن كفر به من البشر، كانت الدواب أتم منه؛ ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
|